الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون محذوفًا من رُباع تخفيفًا، كما روينا عن قطرب:
فحذف ألف الله. وقال الآخر: يريد: الطِّلال جمع طَل، كما قال القُحيف العقيلي: ويقوى أنه أراد رباع ثم حذف الألف ترك صرفه كما كان قبل الحذف غير مصروف.وأما رُبَعٌ فلا نعلم إلا ولد الناقة في أيام الربيع، وذلك مصروف في المعرفة والنكرة، وهذا واضح.ومما حذفت ألفه تخفيفًا أيضًا قولهم: أَمَ والله لأفعلن كذا، يريد: أَمَا.وكذلك قراءة من قرأ: {هأَنْتُمْ} في وزن أَعَنْتُمْ، الألف محذوفة من ها. وأما قول الآخر: فإنه لا يريد هذا الذي؛ بل يريد أَذا الذي، ثم أبدل همزة الاستفهام هاء، كقولهم: هرقتُ في أرقت، وهرحتُ الدابة في أرحتها، وهردتُ ذلك في أردت، وهِنْ فعلن في إِنْ فعلتُ، وقد يجوز مع هذا أن يكون أراد هذا الذي مخبرًا، ثم حذف الألف على ما مضى.ومن ذلك ما ذكره ابن مجاهد في {قيامًا} و{قِيَمًا}، وهما في السبعة {قِوَامًا}، وقيل: {قَوَامًا}، واللغة بكسر القاف. قرأ {قَوَامًا} بالواو وفتح القاف ابن عمر. انتهى كلام ابن مجاهد ولم يذكر {قِوَامًا} عن أحد؛ لكنه أثبته.قال أبو الفتح: يقال: هذا قِوَام الأمر: أي مِلاكه، ويقال: قاومته قِوَامًا كقولك: عاودته عِوادًا، كما قال: وأما {القَوَام} فمصدر جارية حسنة القَوام، فهو كالشَّطَاط، فقد يجوز مع هذا أن يراد بِقِوام ما أراده من قرأ: {قِيامًا} فيخرجه على الصحة، كما قال العجاج: وقياسه النِّيار؛ لأنه مصدر فعل معتل العين، وهو نار ينور: أي نفر. قال: وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي المنصف.ومن ذلك قراءة الحسن: {يُورِثُ كَلالَةً}، ويُورث أيضًا كالمقروء به في السبعة. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: {يُورِّثُ كَلالَةً}.قال أبو الفتح: يُورِث ويُورِّث كلاهما منقول من ورِث، فهذا من أورث، وهذا من ورث، فورِث وأورثته كوغِر صدره وأوغرته، وورِث وورَّثته كورِم وورمته. قال الأعشى: وفي كلتا القراءتين هناك المفعولان محذوفان، كأنه قال: يورِث وارثه مالَه، أو يورِّث وارثَه ماله. وقد جاء حذف المفعولين جميعًا، قال الكميت: فلم يُعدِّ تحسب. وكلالة على نصبها في جميع القراءات.ومن ذلك قراءة الحسن: {غَيْرَ مُضَارِ وَصِيَّةٍ} مضاف.قال أبو الفتح: أي غير مضار من جهة الوصية، أو عند الوصية، كما قال طرفة: أي: بضة عند تجردها، وهو كقولك: فلان شجاعُ حربٍ وكريمُ مسألةٍ؛ أي: شجاع عند الحرب، وكريم عند المسألة، وعليه قولهم مِدْره حرب؛ أي: مِدْرَه عند الحرب، فهو راجع إلى معنى قولهم: ومن ذلك قراءة ابن عباس: {فَاحِشَةٍ مُبِينَةٍ} مكسورة الباء ساكنة الياء، وقال: بيِّنة.قال أبو الفتح: يقال: بان الشيء وأبنته، وأبان وأبنته، واستبان واستبنته، وتبين وتبينته.ومن أبيات الكتاب: وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: ومن كلامهم: قد بَيَّن الصبحُ لذى عينين، وقال: وأنشدنا أبو علي: وهو كثير.ومن ذلك قراءة ابن محيصن: {وَآتَيْتُمُ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} وصل ألف إحداهن.قال أبو الفتح: قد تقدم نحو هذا فيمن قرأ: {فَلا اثْمَ عَلَيْهِ}، يريد: فلا إثم عليه بشواهده، وهذا حذف صريح، واعتباط مريح، نحو قوله: وقد مضى.ومن ذلك قراءة ابن هُرْمُز: {الَّتِي أَرْضَعْنَكم} بلفظ الواحد.قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون التي هنا جنسًا فيعود الضمير عليه على معناه دون لفظه، كما قال سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}، ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، فهذا على مذهب الجنسية، كقولك: الرجل أفضل من المرأة، وهو أمثل من أن يُعتقد فيه حذف النون من الذي كما حذفت من اللذا في قوله: ألا ترى أن قوله: {التي أرضعنكم} لا يجوز أن يُعتقد فيه حذف النون؛ لأنه لا يقال: اللتين، والقول الآخر وجه، إلا أن هذا أقوى لهذه القراءة، وعليه قول الأشهب بن رُميلة: يحتمل المذهبين: حذف النون من الذين، واعتقاد مذهب الجنسية على ما مضى.ومن ذلك قراءة محمد بن السميفع: {كَتَبَ اللَّهُ عَلَيكم} مفتوحة الكاف، وليس بعد التاء ألف، والباء نصب.قال أبو الفتح: في هذه القراءة دليل على أن قوله: {عليكم} من قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} في قراة الجماعة مُعلَّقة بنفس كتاب، كما تعلقت في كَتَبَ اللَّهُ عَلَيكم بنفس كتب، وأنه ليس عليكم من {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} اسمًا سُمي به الفعل، كقولهم: عليك زيدًا، إذا أردت: خذ زيدًا؛ وذلك أن عليك ودونك وعندك إذا جُعلن أسماء للفعل لسن منصوبات المواضع، ولا هن متعلقات بالفعل مُظْهَرًا ولا مُضْمَرًا، ولا الفتحة في نحو: دُونك زيدًا فتحة إعراب كفتحة الظرف في نحو قولك: جلست دونك؛ بل هي فتحة بناء؛ لأن الاسم الذي هو عندك زيدًا بمنزلة صه ومه لا إعراب فيه، كما لا إعراب في صه ومه وحَيْهَل، غير أنه بُني على الحركة التي كانت له في حال الظرفية، كما أن فتحة لام رجل من قولك: لا رجل في الدار، وهي الحركة التي تحدثها لا إعرابًا في المضاف والممطول، نحو: لا غلام رجل عندك، ولا خيرًا منك فيها، وكذلك قول الله تعالى: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}، الفتحة في نون مكانكم فتحة بناء؛ لأنه اسم لقولك: اثبُتوا، وليست كفتحة النون من قولك: الزموا مكانكم، هذه إعراب، وتلك في الآية بناء. وهذا موضع فيه لطف فتفهمه.ولما دخل شيخنا أبو علي- رحمه الله- الموصل سنة إحدى وأربعين، قال لنا: لو عرفتُ في هذا البلد من يعرف الكلام على قولك: دونك زيدًا؛ لغدوت إلى بابه ورُحت. وكذلك قوله تعالى: {كَتَب الله عليكم} و{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُم}، و{عَلَيْكُمْ} في الموضعين جميعًا منصوبة الموضع بنفس كَتَب وكتاب، ولو قلت: عليكم كتاب الله لما كان لقولك عليكم موضع من الإعراب أصلًا، ولا كانت متعلقة بشيء ظاهر ولا محذوف ولا مضمر على ما تقدم، فاعرفه.ومن ذلك قراءة إبراهيم والأعمش وحُميد: {فَسوْف نَصْليه نارًا} بفتح النون، وسكون الصاد.قال أبو الفتح: يُروى في الحديث أنه أُتِيَ بشاة مَصْلِيَّة؛ أي: مشوية، يقال: صلاه يصليه: إذا شواه، ويكون منقولًا من صَلِي نارًا وصَلَيتُه نارًا، كقولك: كَسِي ثوبًا وكَسَوتُه ثوبًا، ومثله- إلا أنه قبل النقل غير متعد- شَتِر وشَتَرْتُه، وغارت عينُه وغُرْتُها.وعليه قوله: فهذا من صلي.فأما قراءة العامة: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} بضم النون، فهو منقول من صلِي أيضًا، إلا أنه نُقل بالهمزة لا بالمثال، كقولك: طعِم خبزًا وأطعمته خبزًا، وعلِم الخبر وأعلمته إياه؛ أي: عرف وعرفتُه.والصَّلَى: النار منه، وهو من الياء لقولهم: صلَيْتُه نارًا.وليست الصلاة من الياء لقولهم في جمعها: صلوات. قال لنا أبو علي سنة سبع وأربعين: الصلاة من الصَّلَويْنِ، قال: وذلك لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصَّلَويْنِ للركوع، فأما القيام فلا يخص الصلاة دون غيرها، وهو حسن.ومن ذلك قراءة طلحة: {فالصَّوالِحُ قوانِتُ حوافِظُ للغيب}.قال أبو الفتح: التكسير هنا أشبه لفظًا بالمعنى؛ وذلك أنه إنما يراد هنا معنى الكثرة، لا صالحات من الثلاث إلى العشر، ولفظ الكثرة أشبه بمعنى الكثرة من لفظ القلة بمعنى الكثرة، والألف والتاء موضوعتان للقلة، فهما على حد التثنية بمنزلة الزيدون من الواحد إذا كان على حد الزيدان. هذا موجب اللغة على أوضاعها، غير أنه قد جاء لفظ الصحة والمعنى الكثرة، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}، والغرض في جميعه الكثرة، لا ما هو لما بين الثلاثة إلى العشرة.وكان أبو علي ينكر الحكاية المروية عن النابغة وقد عرض عليه حسان شعره، وأنه لما صار إلى قوله: قال له النابغة: لقد قللت جفانك وسيوفك.قال أبو علي: هذا خبر مجهول لا أصل له؛ لأن الله تعالى يقول: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، ولا يجوز أن تكون الغرف كلها التي في الجنة من الثلاث إلى العشر.وعذر ذلك عندي أنه قد كثُر عنهم وقوع الواحد على معنى الجميع جنسًا، كقولنا: أَهْلَكَ الناسَ الدنيارُ والدرهم، وذهب الناسُ بالشاة والبعير. فلما كثر ذلك جاءوا في موضعه بلفظ الجمع الذي هو أدنى إلى الواحد أيضًا؛ أعني: الجمع بالواو والنون والألف والتاء. نعم، وعلم أيضًا أنه إذا جيء في هذا الموضع بلفظ جمع الكثرة لا يتدارك معنى الجنسية، فلهوا عنه، وأقاموا على لفظ الواحد تارة ولفظ الجمع المقارِب للواحد تارة أخرى؛ إراحة لأنفسهم من طلب ما لا يُدرك، ويأسًا منه، وتوقفًا دونه. فيكون هذا كقوله:
|